الصيام غذاء الأرواح وجُنَّة من العذاب
د. عبد العزيز بن محمد آل عبداللطيف
فرض الله عزَّ وجلَّ صيامَ رمضان لتحقيق التقوى وتحصيلها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، قال الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العليا، وهو أن يعدَّ نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده...»[1].
ثم إن الصيام يبعث على الإخلاص لله تعالى وحده، ويصحح الإيمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي..»[2].
يقول الحافظ ابن رجب في تعليقه على هذا الحديث: «إذا اشتدَّ توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز وجل في موضع لا يطلع عليه إلا الله؛ كان ذلك دليلاً على صحة الإيمان، فإن الصائم يعلم أنّ له ربَّاً يطلع عليه في خلوته، وقد حرَّم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربّه وامتثل أمره، واجتنب نهيه؛ خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فشكر اللهُ له ذلك...»[3].
فالحاصل أن الصيام سببٌ متينٌ لتحقيق التقوى، ودليلٌ ظاهرٌ على صحة الإيمان، وسبيلٌ لنيل درجة الإحسان ومراقبة الله في السرِّ والعلن.
* إذا تقرَّر أن الصيام يحقق التقوى، وبرهان الإيمان، وطريق الإحسان؛ ففي غمرة المصطلحات الحادثة، والتعبيرات المعاصرة؛ غلب الحديث عن «الصيام والتغيير».. «الصيام غيّرني»... إلخ.
مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولا حرج في التعبير عن المعاني الصحيحة بالاصطلاحات الجديدة[4].
لكن «التعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها، فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تنزيل من حكيم حميد، وفيها من الحكم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه، والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع»[5].
فالألفاظ الشرعية كالتقوى والإخلاص والإيمان، فيها من الشفاء والغَنَاء والحرمة ما ليس لغيرها.
ثم إن لفظ «التغيير» لفظ مجمل ومحتمل، فقد يراد به حق أو باطل، بخلاف ألفاظ التقوى والإحسان ونحوها، فإن التغيير - في لغة العرب - بمعنى الاستحالة والتبديل من شيء إلى شيء، والتحوّل من صفة إلى أخرى..[6]، فلا يختصّ هذا التغيير بما كان محموداً مطلوباً.
فقد يكون «التغيير» مذموماً، كما في قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ظ،ظ،]، قال ابن تيمية: «ومعلوم أنهم كانوا على عادتهم المحمودة، يقولون ويفعلون ما هو خير، لم يكونوا قد غيّروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصدَ الشر، وباعتقادهم الحق اعتقادَ الباطل، قيل: قد غيّروا ما بأنفسهم، مثل من كان يحبّ الله ورسوله والدار الآخرة، فتغيّر قلبه وصار لا يحبّ الله ورسوله والدار الآخرة، فهذا قد غيّر ما في نفسه»[7].
إضافة إلى أن الحديث الحاضر عن «التغيير» في رمضان يركز على آثار الصيام السلوكية والأخلاقية في الدنيا، وينهمك في التغيّرات التي تحصل في جوانب التعاملات والعلاقات في حياتنا الحاضرة، ويستحوذ على جوانب المهارات الذاتية، والنواحي النفسية، وإخضاع ذلك التغيير للتقويم والتطبيق.
فهناك إغراق في آثار الصيام في الحياة المعاصرة، والواقع الدنيوي، وأما الحديث عن الصيام وآثاره الأخروية، وربط الصيام بيوم البعث والنشور، وأنه جُنّة من عذاب الجحيم؛ فهذا الأمر الظاهر الجليل صار مغيّباً خفياً!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم «الصيام جُنّة»[8]، وجاء في غير رواية «جُنّة من النار»، وفي رواية لأحمد «جُنّة وحصن حصين من النار»[9]، قال الحافظ ابن حجر: «الجُنّة بضم الجيم الوقاية والستر، وقد تبيّن بالروايات متعلق هذا الستر، وأنه من النار، وبهذا جزم ابن عبد البر.. وقال ابن العربي: إنما كان الصوم جُنّة من النار لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، فالحاصل أنه إذا كفّ نفسه عن الشهوات في الدنيا، كان ذلك ساتراً له من النار في الآخرة»[10].
وخَفَتَ الحديثُ عن الصيام وكونه سبيلاً إلى جنات النعيم! فعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة باباً يقال له الريّان، يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم»[11].
وقد كشف ابن تيمية عن مسلك الذي يقصرون الدين على مصالح دنيوية محضة فكان مما قاله: «ليس المقصود بالدين الحق مجرد المصلحة الدنيوية، كما يقوله طوائف من المتفلسفة، فإذا لم يكن مقصود الدين إلا جلب المنفعة في الحياة الدنيا، ودفع المضرة فيها، فليس لهؤلاء في الآخرة من خلاق.. وهؤلاء المتفلسفة ومن سلك سبيلهم يجعلون الشرائع من هذا الجنس لوضع قانون تتم به مصلحة الحياة الدنيا، ولهذا لا يأمرون فيها بالتوحيد، وهو عبادة الله وحده، ولا بالعمل للدار الآخرة»[12].
وكذا إخضاع تأثير الصيام وتغييره للأشخاص وَفق تقاويم البشر ومشاهداتهم، وحسب معايير المهتمين بالأحوال النفسانية.. إن ذلك قد لا يتفق ولا يتسق من كون الصيام سرّاً بين العبد وربه لا يطّلع عليه غيره؛ «لأنه مركب من نية باطنة لا يطّلع عليها إلا الله، وتركٌ لتناول الشهوات التي يستخفى بتناولها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة، وقيل: إن ليس فيه رياء، كذا قال الإمام أحمد وغيره، وكان بعضهم يودّ لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة»[13].
إن الصيام وإن كان فيه كسر للنفس، وقمع لشهواتها، إلا أنه - وسائر العبادات - «غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، وكما دلّ عليه القرآن فغالب الشرائع (؟؟؟؟؟؟) قرة العيون، وسرور القلوب، ولذات الأرواح، وكمال النعيم»[14].
يقول ابن القيم: «من له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني، لا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قرّت عينه بمحبوبه، وتنعّم بقربه، والرضى به، وألطاف محبوبه وهداياه.. أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحبّ؟»[15]. وكان ابن تيمية - رحمه الله - قليل تناول الطعام والشراب، وينشد كثيراً هذا البيت:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
عن الشراب وتلهيها عن الزاد[16]
ونختم المقال بشيء من فتوحات ابن القيم في هذا الصدد، حيث يقول: «خُلق بدن ابن آدم من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقُرِن بينهما، فإذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة (العبادة) وَجَدت روحه خفةً وراحةً، فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه، واشتاقت إلى عالمها العلوي؛ وإذا أشبعه ونعّمه ونوّمه، أخلد البدن إلى الموضع الذي خُلِق منه فانجذبت الروح معه فصارت في السجن..»[17].
[1] تفسير المنار  (2/145).
[2] أخرجه البخاري ومسلم.
[3] لطائف المعارف، ص 161.
[4] ينظر: الدرء لابن تيمية: (1/232).
[5] النبوات لابن تيمية: (2/876).
[6] ينظر  الدرء: (1/112)، (2/185)، (4/72)، (10/185).
[7] جامع الرسائل: (2/45).
[8] أخرجه البخاري.
[9] ينظر: فتح الباري لابن حجر (4/104).
[10] فتح الباري (4/104).
[11] أخرجه البخاري وغيره.
[12] جامع الرسائل، (2/231 - 233) باختصار.
[13] لطائف المعارف، ص 162.
[14] مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/56).
[15] زاد المعاد (2/33).
[16] الآداب الشرعية لابن مفلح (2/497).
[17] الفوائد ص 187.