التغافل المحمود...قيمة إسلامية نحتاجها
عامر الهوشان
((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) حقيقة ذكرت للتنبيه على أن من طبيعة الإنسان في هذه الحياة الدنيا الخطأ والزلل, وصيغة العموم في قوله: ((كل بني آدم)) (1) تفيد عدم الاستثناء إلا لمن اختصهم الله بالعصمة من الأنبياء والمرسلين.
وانطلاقاً من هذه السنة الكونية والحقيقة الثابتة ينبغي أن يتعامل المسلم مع جميع الناس المحيطين به, من زوجة وأولاد وأصحاب وشركاء وجيران وأحباب, فيما يتعلق بالأمور التافهة والصغيرة من سفاسف الدنيا وأمور الحياة اليومية.
بالتغافل والتجاهل عنها, فما دام الخطأ والزلل من طبيعة بني آدم, فلا داعي للتركيز على الأخطاء أو التدقيق على الهفوات, إذ من شأن ذلك أن يجعل الحياة مع أمثال هؤلاء من الصعوبة بمكان, الأمر الذي قد يؤدي إلى خراب بعض البيوتات, وتشرذم العائلات وقطع الرحم التي أمر الله تعالى أن توصل, وهجران الأصدقاء وابتعاد الخلان.
إن ابتعاد بعض المسلمين عن هذا الخلق النبيل, وفهم بعضهم الآخر له فهما بعيداً كل البعد عن حقيقته وجوهره السامي, بل يمكن القول بأنه فهم معكوس ومنكوس, هو ما يجعل تناول هذا الموضوع حاجة متكررة, وضرورة ملحة, في عصر كثر فيه التدقيق على التوافه, والاهمال والتجاهل للكبائر!
والحقيقة أن فضيلة التغافل المحمود ثابتة في أقوال وأفعال السلف الصالح, فيقول الإمام أحمد بن حنبل " تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل" , ويقول الحسن البصري يقول: "ما زال التغافل من فعل الكرام" .
بل إن بعض روايات التفسير تشير إلى إعراض النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعض ما أعلنت به حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها- مما قد أسره النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها تكرماً, قال تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) التحريم/3 .
قال القرطبي -رحمه الله-: وَمَعْنَى (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)عَرَّفَ حَفْصَةَ بَعْضَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا نَهَاهَا عَنْ أَنْ تُخْبِرَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ تَكَرُّمًا. الجامع لأحكام القرآن 18/187
إن من يدقق في متعلقات خلق التغافل الذي كان السلف الصالح يتمسك به ويطبقه, يتبين له أن ذلك التغافل كان محمودا, لكونه يتعلق بالحقوق الشخصية, وبسفاسف الأمور وحاجات الحياة الدنيا الفانية, من طعام وشراب وخدمة في البيت أو العمل أو المدرسة أو الشارع... وما شابه ذلك.
فلم يكن أحدهم يلاحق زوجته على كل هفوة أو غلطة صغيرة متعلقة بحقوقه الشخصية داخل البيت, بل كان تجاهل هذه الأخطاء - حتى لو كانت متكررة – سمة وعلامة شاهدة على سمو أخلاقهم و تعاليهم على سفاسف الأمور لانشغالهم بعظائمها, وكذلك الحال هو تعاملهم مع الأخ والصديق والجار و الصاحب في المهنة والعمل... الخ.
أما ما يقع في كثير من الأحيان من بعض المسلمين من الممارسات والأفعال في عصرنا الحاضر, من ترك الحبل على غاربه في البيت فيما يتعلق بحقوق الله تعالى, كالتزام الصمت إزاء تقصير الزوجة أو البنت في حجابها, أو التغاضي عن خروجها من البيت بنصف حجاب أو بلباس لا يتفق مع ضوابط الإسلام, أو التهاون في التقصير الفاضح في أداء الصلاة على وقتها, أو ما شابه ذلك من حقوق الله... والتي قد يظنها البعض أنها من باب التجاهل والتغافل, فإنه في الحقيقة ليس من باب التغافل في شيء, وإن كان البعض يظنه تغافلا فهو تغافل مذموم و مرفوض.
وما يزيد الأمر سوءا في ممارسات هذه الفئة من المسلمين هو عدم تغافلهم عن أي حق من حقوقهم الشخصية التي من المفترض التغافل عنها, فترى أحدهم لا يتجاهل أي هفوة من زوجته فيما يتعلق بطعامه وشرابه وأموره الشخصية المادية, كما أنه لا يتغافل عن بعض أخطاء أولاده المتعلقة بالأمور المادية الدنيوية... لينقلب معيار التغافل عند أمثال هؤلاء, فيغدو ما يجب التغافل عنه محل اهتمام وتذكير وتركيز, وما يجب الاهتمام به محل تغافل وإهمال وتقصير.
إن السيد في قومه وبيته وعمله و... الذي وصفه الشاعر بقوله:
ليس الغبي بسيد في قومه***لكن سيد قومه المتغابي
والذي اعتبره معاوية -رضي الله عنه- ثلثا مكيال العقل بقوله: "العقلُ مكيالٌ، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل" إنما هو ذاك الذي يترفع عن متابعة هفوات من يعول لتستمر الحياة هنيئة طيبة معهم, بينما لا يترك الحبل على غاربه في عظائم الأمور وأمهاتها - كالصلاة وكل ما يتعلق بحقوق الله تعالى – لأن ذلك يوقعه ويوقعهم في مساءلة عظيمة يوم القيامة, ناهيك عن نتائجها المذمومة الوخيمة في الدنيا.
إن التغافل المحمود - بلا شك - قيمة إسلامية نحتاجها في حياتنا اليومية, بينما الاهمال والتقصير في متابعة من نعول فيما ينفعهم في الدنيا وينجيهم يوم القيامة آفة خطيرة لا بد من تلافيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه الترمذي (2499) وابن ماجه (4251) والدارمي (2730) وأحمد في (المسند) (3/198) وفيه ضعف.