الجفاف العاطفي
أ. رحمة الغامدي
العواطف تحرِّك الجبالَ قبل النفوس، وتوجِّهُ الكثيرَ من سلوكياتنا، بل تُدير منازلَنا ومؤسساتِنا، شئنا أم أَبَيْنا؛ ولذلك ينبغي أن نهتمَّ بالعاطفة ونحرِّكَها نحو الأفضل.
فكلماتُ الحب الهامسة، ولمسات الأبوَّة الحانية، وقُبُلات الأم الدافئةُ - تلعب دورًا ملموسًا في تربية الأبناء؛ جاء الأقرع بن حابس إلى رسول الله فرآه يقبِّل الحسن بن علي، فقال الأقرع: أتقبِّلون صبيانَكم؟! فقال رسول الله: ((نعم))، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ واحدًا منهم قط، فقال له رسول الله: ((من لا يَرحم، لا يُرْحم))؛ متفق عليه. إنه قدوتنا، فأين نحن من هدْيِه؟
ما مستوى وجود التعبير عن الحب بين أفراد الأسرة؟
هل تحب زوجتك/ زوجك؟ أولادكم؟ لا نختلف، بل نكاد نجزم أن المحبة واقعة بينهم، ولكن السؤال: هل التعبير عن الحب ملموسٌ بين الزوجين، وبين أفراد الأسرة ككل؟
للأسف تجد بعض بيوتنا صحراءَ قاحلة، يختفي بين أفرادها عباراتُ الحب الهامسة، والبسمة الشافية.
لماذا نجد جفافًا في المشاعر، وقسوةً في العبارات؟ التي غالبًا ما يصحبها صوتٌ عالٍ بالمنزل بين الأزواج، وبين الأولاد، وبين الآباء وأولادهم.
كم من مشكلات أسرية قامت بسبب كلماتٍ جارحة، وصرخات غامضة، على أمور تافهة، حتى إنها وصلت في بعض الأسر إلى تقاطُع الأرحام والتفكك الأسري، بل وامتدَّتْ إلى القتل، وكم من قاتلٍ عندما سُئل عن السبب قال سببًا تافهًا؛ هو مؤمن بعدم كفايته للقتل! إنها العبارات غير المهذَّبة، إنه الجفاف العاطفي، أين: (لو سمحت - أحبك - السلام عليكم - شكرًا...)؟
أين التعبير عن مشاعرنا لأزواجنا - لأبنائنا - لآبائنا، ومع أقاربنا؟
من المؤسف أن تسمع من الاستشارات: أمي لا تحبُّني؛ حيث إنها لا تعلِّمني شيئًا إلا بصوتٍ عالٍ، ولا تُقبِّلني إلا في العيد، وأخرى: زوجي لا يحبُّني، والدي لا يحبُّني!
الحب موجود، ولكنه غير ملموس، ولكن التعبير عنه مفقود؛ أين الاحتضان؟ أين القُبُلات؟ أين اللمسات؟
جميل أن نتدرب عليها، ونتفق مع أبنائنا على ممارستها قبل النوم، وبعد الاستيقاظ، وعند الخروج من المنزل أو الدخول إليه؛ فليس أجمل من أن أهمس في أذن ابنتي وهي على فِراشها: أُحِبُّك، مع طبع قُبلةٍ على جبينها، وما أجمل أن أودِّع ابني وهو ذاهبٌ إلى الصلاة بقُبُلات ودعوات يسمعها مني، وعند عودته أحتضنه، ليس كلَّ مرة؛ ولكن لتكن ضمن جدولنا اليومي.
أليست الكلمة الطيبة صدقة؟
أليس الأقربون أَولى بالمعروف؟
أليس مِن أحبِّ الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخِله على قلب مسلم؟
حينما يتجهم البعض على تقبيل الأبناء ويراه طريقًا لإفسادهم، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل الصغار والخدم وزوجاته، وعندما يرى البعض أن التدليل في الكلمة الطيبة وفي الرفق واللين، فهذا عليه الصلاة والسلام يقول: ((مَن أُعطي حظَّه من الرفق، فقد أُعطي حظه من الخير، ومن حُرِم حظَّه من الرفق، فقد حُرم حظه من الخير))؛ رواه الترمذي.
إن الكلماتِ الجارحة، والعصبيةَ الزائدة، وتلبية الاحتياجات بتضجر ونفور - من أهم الأسباب التي تؤدِّي إلى شعور الأبناء / الأزواج بالفراغ العاطفي، الذي ينتج عنه انحرافات عاطفية، وليس ذلك فحسب:
كيف يطلب الآباء من الأبناء برَّهم في الكِبَر وهم لا يعرِفون الكلمة الطيبة منهم؟
كيف نريد أن يتعاون أبناؤنا ويترابطون فيما بينهم، ولا تفرِّقهم نازلة، وهم لا يتكلَّمون إلا بالألفاظ النابية، والكلمات الجافة الجارحة؟
لِنتداركِ الأمر، ونَلحَقْ بالرَّكب، ونُداوِ الجرح قبل أن يتفاقم؛ من خلال استخدام الوسائل واتباع الفنيات التي تلطِّف جو الأسرة، وتطفئ وَقود الغضب والضيق، وهذه الوسائل والفنيَّات جميل أن يتفق الزوجانِ عليها لفرضها كقوانين في المنزل، وبذْل كل ما يعبِّر عن الحب بينهما؛ فهما القدوة للأبناء، ومن هذه الوسائل والفنيَّات:
1- الأب - الأم: أنتما قدوة؛ فلا عيبَ في إظهار المحبة بينكما بالشكل اللائق، مع الاتفاق على الاحترام بينكما بصوره المتعددة، كما أن إظهار اهتمامكم بوالديكم وبرهم، وتربية أبنائكم على الاهتمام بهم - من أهمِّ أسباب التراحم بين أفراد العائلة.
2- تحديد اتفاقيات مهمة في التعامل داخلَ المنزل، والتعامل بحزم في تطبيقها، مع مكافأة من يلتزم بها.
3- التربية على (لو سمحت - مِن فضلك - شكرًا - هل تحتاج إلى مساعدة؟ - جزاك الله خيرًا، وغيرها)، من خلال القدوة + الممارسة + المكافأة.
4- احترام مواعيد الوجبات الرئيسة، والحديث فيها عن الاهتمامات والأحوال، دون تقديم لوم أو توجيهات جافة وكثيرة، وإنْ حصَلَ تخلُّفٌ عنها لظرفٍ ما، يُقدَّم تعويض عن ذلك بما تقتضيه المصلحة.
5- الاهتمام بالمناسبات مثل الأعياد وحفلات النجاح وغيرها من حفلات سلامة الخروج من مشفى أو حادث وغيرها، مع تبادل الرسائل والهدايا ولو كانت بسيطة.
6- التربية على الاعتذار والتسامح من أهمِّ ما يقوِّي العلاقات، ويصفي النفوس. وقد كان صلى الله عليه وسلم أسوةً في تسامحه مع جاره اليهودي، والسماح للصحابي الذي وكَزَه في بطنه بالاقتصاص منه.
7- الدعاء للأولاد وللأزواج على مَسمَعٍ منهم، وكثيرًا ما نسمع الناجين والناجيات يقولون: أمي تدعو الله لي - ما وصلتُ له من نجاح هو بفضل دعاء والديَّ لي، وغيرها.
8- الاهتمام بالسلام وإلقاء التحية، وخاصة عند (الخروج من المنزل والعودة له - النوم والاستيقاظ منه).
9- اللمسة الأبويَّة الحانية، والقُبُلات ما قبل النوم، والاقتراب أكثر من الأبناء عند الحديث معهم - سلوكياتٌ لا بد من التعود عليها.
10- التربية على الحوار الأسري، والتعود على ممارسة فنيَّاته، مع عدم السماح برفع الصوت أو استخدام كلمات وألفاظٍ غير لائقة (القراءة حول الحوار: فنياته وضوابطه).
11- قلة العتاب، وعدم تصيُّد الأخطاء، وجميل التجاهل، واستخدام الأسلوب غير المباشر في التوجيه (ما بال أقوام فعلوا كذا وكذا؟)، وتذكّر: مَن أكثر العتاب، أضاع الأحباب.
12- الاهتمام والعناية حتى في وجود (سائق - وخادمة) في المنزل؛ لأن من أهمِّ ما يعبِّر عن الحبِّ إظهارَ الاهتمام والعناية، وله صور مختلفة حسب ما يناسب كلَّ أسرة.
13- معرفة ما يحب كلُّ فرد من أفراد الأسرة وما هو بحاجة له، وهذا من أهمِّ ما يفشي جوًّا مفعمًا بالحب؛ فمثلًا: أنتِ جميلة، بدلًا من: أنتِ سمينة.. شعرك غير مرتب، والزوج والأولاد يحبون المديح، وخاصة بعد تلبية احتياجات الأسرة، حينها ما أجمل كلمة: الله يعافيك، أنت سندي بعد الله.
14- الحديث عن القصص الجميلة وذكريات الطفولة المضحكة من الأمور التي تدفق الحب والمودة بين الأفراد.
15- ولأن التقنية فرضت نفسَها؛ فما أجمل مجموعةً على وسائل التواصل تخص الأسرة!
وختامًا: لا تقل: الأمر صعب، لقد تعوَّدنا على هذا النمط المعيشي؛ ما زال المفتاح بين يديك، والحل رهن إشارتك، تحتاج فقط أن تمارس، أن تتعود، أن تتدرب؛ حتى تصبح العبارات الرقيقة، والابتسامة الجميلة، والكلماتُ الفياضة - عادةً من العادات التي تمارسها يوميًّا.
وتذكَّرْ أن أسوأ الصفات في الإنسانية هي صفة البخل، ويكون أسوأ عندما يكون في أمرٍ لا يكلِّفك شيئًا، في كلمات طيبة لا تُخسِرك شيئًا، بل ترفعك قدرًا في الدنيا قبل الآخرة.
"كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته".