صور من حياة السلف في التواصل الإداري
د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
لاشك أن هناك صوراً مشرقة بنور الإيمان، والأمانة، ومراعاة المسؤولية أمام الله تعالى، ثم أمام الناس، سطرها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، ومن هذه الصور، ما يلي:
أولاً: كان الخليفة الراشد أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو خليفة المسلمين يذهب إلى بيت صغير في ضواحي المدينة، فيمكث لديهم مدة، ثم يخرج ويعود إلى المدينة، إنه بيت لامرأة عجوز عمياء، وحولها صبية صغار، وهي لا تعرف أنه خليفة المسلمين، وقد سُئلت يوماً عن هذا الرجل الذي يدخل عليها، فقالت: إنه ليتردد علينا حيناً، والله إني لا أعرفه، وإنه يأتي إلينا فيكنس دارنا، ويطبخ عشاءنا، وينظف قدورنا، ويجلب لنا الماء، ثم يذهب.[1]
ثانياً: وعن تفقد العمال، ومعرفة أحوالهم، والتأكد من تأديتهم واجباتهم، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما جاءه أهل الكوفة يشتكون من الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أرسل على الفور رجالاً يتأكدون من صحة الشكوى، وقد أورد البخاري في صحيحه: " عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر - رضي الله عنه -فعزله، واستعمل عليهم عماراً، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين، وأخـف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلاً، أو رجالاً إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجداً إلا سأل عنه، ويثنون معروفاً حتى دخل مسجداً لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة، قال: أما إذ نشدتنا، فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سُئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.[2]
ثالثاً: وهناك قصة مشهورة جداً عن الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومحاسبته لعماله في الأمصار، فعـن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: " كنا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذ جاءه رجل من أهل مصر، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مقام العائذ بك، قال: وما لك؟، قال: أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل فأقبلت، فلما ترآها الناس، قام محمّد بن عمرو فقال: فرسي ورب الكعبة، فلما دنا منه عرفته، فقلت: فرسي ورب الكعبة، فقام إليّ يضربني بالسوط، ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين، قال: فوالله ما زاده عمر أن قال له: اجلس، ثم كتب إلى عمرو إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل معك بابنك محمّد، قال: فدعا عمرو ابنه فقال: أحدثت حدثاً؟ أجنيت جناية؟، قال: لا، قال: فما بال عمر يكتب فيك؟، قال: فقدم على عمر، قال أنس: فوالله إنا عند عمر حتى إذا نحن بعمرو، وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه؟، فإذا هو خلف أبيه، قال: أين المصري؟، قال: ها أنا ذا، قال: دونك الدّرة فاضرب ابن الأكرمين، اضرب ابن الأكرمين قال فضربه حتى أثخنه، ثم قال: أحلِها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد ضربت من ضربني، قال: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟، ثم التفت إلى المصري، فقال: انصرف راشداً فإن رابك ريب فاكتب إليّ.[3]
رابعاً: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ليلةٍ من الليالي وهو يطوف في المدينة: سمع امرأة في خيمة، وهي في النفاس، فسمعها تصرخ من ألم الولادة فبكى، وذهب إلى بيت المال، وحمل شحماً، وزيتاً، وزبيباً، وبراً على كتفه، فقال أسلم مولاه: أنا يا أمير المؤمنين! أحمل هذا، قال: لا، إنك لا تحمل أوزاري يوم القيامة، ودخل الخيمة، وصنع الطعام، وقدم العشاء للمرأة، فقالت: والله إنك خيرٌ من عمر بن الخطاب.[4]
خامساً: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يغدو فقلت: يا أمير المؤمنين، إلى أين؟ فقال: بعير ند من الصدقة أطلبه، فقلت: لقد ذللت الخلفاء بعدك يا أمير المؤمنين، فقال: لا تلمني يا أبا الحسن، فو الذي بعث محمداً بالنبوَّة لو أن سخلة ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة إنه لا حرمة لوالٍ ضيع المسلمين.[5]
سادساً: دخل عطاء بن أبي رباح - يرحمه الله - على عبد الملك بن مروان - يرحمه الله - وهو جالس على سريره، وحواليه الأشراف من كلّ بطن، وذلك بمكّة المكرّمة في وقت حجّه في خلافته، فلمّا نظر إليه قام إليه، وأجلسه معه على السّرير، وقعد بين يديه، ونصحه، فقال له: اتّق اللّه فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، ولا تغلق بابك دونهم[6]
إن المتأمل في هذه الصور الرائعة من حياة السلف الصالح يتضح احتوائها على دروس عملية في قمة أداء القيادة الإدارية لمسؤولياتها، والتواصل الإداري لمختلف المستويات، بل كل موقف منها يقدم نموذجاً فريداً في أداء المسؤولية، والتواصل الإداري، والمهم ليس الافتخار بهذا المواقف فحسب، بل يجب أن نعي هذه الدروس، ونسعى للتخلق بأخلاق هؤلاء النماذج المتميزة والاقتداء بهم.
[1] ( السيوطي، تاريخ الخلفاء، ج1 ، ص 78 ).
[2] ( البخاري، صحيح البخاري، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، حديث رقم : 755 ).
[3] ( المبرد، محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ج 2 ، ص 473 ).
[4] ( القرني، دروس للشيخ عائض القرني، معاملة عمر لرعيته، رقم الدرس : 398 ).
[5] ( التلمساني، الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة ، ص 252 ).
[6] ( عدد من المختصين بإشراف الشيخ/ صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب الحرم المكي، نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ج 3 ، ص 539 ).