خصال من جلائل الأعمال
الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
إنَّ الحمد لله نَحمَدُه، ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله مِن شرورِ أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فيا أيها الناس:
اتَّقوا الله، واسعَوْا إلى ما فيه رِضاه، واحذروا مِن أسباب عقوبته وموجباتِ سخطه في الدنيا والأخرى، واعتنوا بسُنَّة نبيكم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - معرفةً وفهمًا، وحفظًا وعملاً، وتبليغًا للأمَّة، فإنَّ السنة بيانٌ للقرآن كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]، فكان - صلى الله عليه وسلم - يبيِّن القرآن بأقواله وأفعاله، وتقريراته وأحواله، فأسعدُ الناس في الدنيا والآخرة أعلمُهم بها، وألْزَمُهم لها، وأقومُهم ببيانها وتبليغها، ونشْرها والذب عنها - جعلَنا الله وإيَّاكم من أنصار سُنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً وحالاً، وجعَل أعمالنا كلَّها خالصةً لوجهه، مقبولةً لديه.
أيها المسلمون:
روى الإمام مسلمٌ - رحمه الله - في صحيحه عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الطُّهور شطرُ الإيمان، والحمدُ لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأانِ - أو تملأ - ما بيْن السماء والأرْض، والصلاة نور، والصَّدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حُجَّةٌ لك أو عليك، كلُّ الناس يَغْدو بائعٌ نفْسَه فمُعتِقها أو مُوبقها)).
فهذا الحديث واحدٌ من نصوص سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامعَ الكَلِم، وهو حديثٌ عظيمُ الشأن، جليل القدر؛ لِمَا اشتمل عليه مِن مهمَّات من الحكم، وبيان بعض فضائل الفرائض والنوافل، والحَثِّ على العناية بالقرآن العظيم، وبيان حصيلةِ عملِ الناس في هذه الحياة، فمنهم مَن يسعى في اعتقاداته ونيَّاته، وأقواله وأحواله في إعتاق نفْسِه مِن شقوة الدنيا، وخِزي الأخرى، ومنهم مَن يُوبِقها في دَرَكات الشقاء، ويُورِدها نارًا تلظَّى: ﴿ سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [آل عمران: 191 - 192].
أيها المسلمون:
بدأ هذا الحديثُ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطُّهور شطرُ الإيمان))؛ يعني: أنَّ التطهُّر بالماء أو التيمم بالتراب عندَ عدم وجود الماء أو العجْز عن استعماله مِن حدَث أصغر أو أكبر - هو شطرُ الإيمان؛ يعني: نصفه، والمراد بالإيمان هنا: الصَّلاة، كقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]؛ يعني: صلاتَكم إلى غير جِهة القِبلة حين اجتهدتُم في معرفتها فلمْ تصيبوها.
فالتطهُّر مِفتاح الصلاة، فلا يَقْبل الله صلاةً بغير طهارة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَقْبل اللهُ صلاةَ أحدكم إذا أحْدَث حتى يتوضأ))، وفي الحديث الآخَر: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُحافِظ على الوضوء إلا مؤمن)).
وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مِن فضائل الوضوء أن أمَّته يُدْعَون يوم القيامة غُرًّا محجَّلين من آثارِ الوضوء، وعدَّ - صلى الله عليه وسلم - إسباغَ الوضوء على المكاره يمحو الله به الخطايا، ويرفَع به الدرجات، وأخْبَر - صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّ الخطايا تتحاتُّ مِن أعضاء الوضوء مع الماء أو مع آخِرِ قَطْر الماء، ومَن توضَّأ فأحسن الوضوءَ، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وجبَتْ له الجنة.
ويدخُل في الطُّهور من حيثُ المعنى التطهُّرُ مِن النجاسات المعنوية: من الشِّرْك الأكبر والأصغر، والبِدع، والمعاصي؛ بالحذر منها، والبُعد عن مواطنها وأسبابها وذرائعها، والتوبة إلى الله تعالى - من قريب - ممَّا قد يكون اقترَفه الإنسان منها؛ فإنَّ في البُعْد عنها صيانةً للإيمان مِن النقص والخلل أو البطلان، وفي التوبة ممَّا قد حصَل منها تكميلاً للإيمان، وجبرانًا لنقْصِه في كلِّ آن.
أيها المسلمون:
وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والحمدُ لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن - أو تملأ - ما بيْن السموات والأرض))، ففيه بيانُ فضل هذه الكلمات مِن الذِّكْر، وأنَّها مِن أفضل وأثقل ما يُوضَع في الميزان يومَ القيامة، وقد ثبَت في صحيح مسلِم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ أحبَّ الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده))، وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: ((كلمتانِ خفيفتانِ على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))؛ متفق عليه.
ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الحمدُ لله مِلْءُ الميزان، وسبحان الله نِصفُ الميزان، ولا إله إلا الله والله أكبر مِلْءُ السموات والأرْض وما بينهما)).
فقد تضمَّنتْ هذه الأحاديثُ وما جاء في معناها بيانَ فضْل هذه الكلمات الأربع، وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فيَنبغي للعبد الإكثارُ منها مطلقًا، والمحافظة على ما جاء منها مقيَّدًا بعددٍ أو وقتٍ أو حالٍ كما ورد، فإنَّها أحبُّ الكلام إلى الله، وهي من القرآن.
وفي الصحيحين عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قال: لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، له المُلْك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير، في يومٍ مائةَ مرَّة، كانت له عَدْل عِتْق عشْر رِقاب، وكُتبت له مائةُ حَسَنة، ومُحِيت عنه مائةُ سيِّئة، وكانتْ له حِرزًا من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ ممَّا جاء به إلا رجلٌ عمِلَ أكثرَ منه)).
وقال: ((مَن قال: سبحان الله وبحمده، في يومٍ مائةَ مرة، حُطَّتْ خطاياه وإنْ كانت مِثلَ زَبد البحر))، وفي صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن سبَّح الله في دُبر كلِّ صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحَمِد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحْده لا شريكَ له، له المُلْك وله الحَمْد، وهو على كلِّ شيء قدير، غُفِرتْ خطاياه وإنْ كانت مِثلَ زبَد البَحْر))، وفي الصحيحين عن عائشةَ - رضي الله عنها -قالت: ((كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكثِر أن يقولَ في رُكوعه وسجوده: سبحانك اللهمَّ وبحمدك، اللهمَّ اغفرْ لي)).
وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والصلاة نور))، ففيه بيانُ عِظم شأن الصلاة، وشدَّة حاجَة العبد إليها، فإنَّها إذا كانتْ نورًا، فذلك دليلٌ على شدَّة الحاجة إليها، ولا يخفَى أنَّ الصلاة عمودُ الديانة، ورأس الأمانة، وهي ذِكر الله الأكبر، والناهية عنِ الفحشاء والمنكر، وتَهدي إلى الفضائل، وتكفُّ عن الرذائل، وهي مِن خير ما يُستعان به على مطالِب الدنيا والآخِرة، وهي نورٌ في القلْب وفي الوجه، وفي القبر وعلى الصراط، ونصيبُ العبْد من النور في هذه الأمور بحسبِ حظِّه من صلاته؛ وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بشِّروا المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التامِّ يوم القيامة))، وفي حديثٍ آخرَ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((خمسُ صلوات كَتَبهنَّ الله، مَن حافَظَ عليهنَّ كُنَّ له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة)).
مرَّ - صلى الله عليه وسلم - بقبْرٍ حديثِ عهْدٍ بدفْن، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا قبر فلان التاجِر، فقال: ((واللهِ لَصلاةُ ركعتين أحبُّ إلى صاحِب هذا القبر من الدنيا وما فيها)).
أيها المسلمون:
وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والصَّدَقة برهان))، فمعنى ذلك ظاهر؛ فإنَّ البرهان هو الضياء الشارِق، سُمِّيت به الصَّدقة؛ لأنَّها برهان على إيمان مُخرِجها عن طيب نفس؛ فإنَّه آثَر طاعةَ ربه على محبِّة ماله؛ ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]، فهي تُصدِّق إيمانَ صاحبها وتحققه؛ ولهذا سُمِّيت صدقة، وتُسمَّى زكاةً لِمَا فيها مِن تزكية المتصدق بتطهيره من العيوب والذنوب، وتزكِّي المال بإذهاب أسبابِ نقْصه وتَلَفِه، وإحلال البركة فيه، وتزكِّي الآخذ بإعفافه وإغنائه عن الحاجة والسؤال؛ وفي الصحيحِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما نَقصتْ صَدقةٌ من مال))، وقد أقرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقراءَ المهاجرين على قولهم في حقِّ إخوانهم الأغنياء الذين يتصدَّقون بفضول أموالهم: ((ذهَبَ أهلُ الدُّثور بالأجور والدرجات العُلاَ والنعيم المقيم)).
فلو لم يوجدْ نصٌّ في فضْل الصدقة إلاَّ هذا، لكَفَى.
ويدخُل في الصدقة فريضةُ الزكاة، وواجبُ النفقات، وأنواع التبرُّعات والمواساة، مع النيَّة الصالحة، وموافقة الشَّرْع، فكلُّ ذلك من أسباب نماءِ المال، ومحبَّة الناس، وصرْف البلايا، وتكفير الخطايا، وجزيل العطايا، وتأجيل المنايا، ورِفْعة الدَّرجات، والفوز بأعالي الجنَّات، ورضوان ربِّ الأرض والسموات، فهنيئًا للمتصدِّقين.
فاتَّقوا الله عبادَ الله، وتطهَّروا كما أمرَكم الله، وأكْثِروا ذكْر الله، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، تكونوا مِن أئمَّة أُولي التقَى، وتسعدوا بأن تُحشروا مع نبيِّ الهُدى، وتُفلِحوا في الدنيا والأخرى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 70].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا جميعًا بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم مِن كل ذنب، فاستغفروه يغفرْ لكم، إنَّه هو الغفور الرحيم