يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
[ سورة النحل الآية : 97 ]
الحياة الطيبة :
فما هي هذه الحياة الطيبة ، التي أشارت إليها هذه الآية الكريمة ؟
أهي في سلامة الجسم من الأمراض والعاهات .
أم في طهارة النفس من الشوائب والنزوات .
وهل هي في توافر حاجات الجسد من طعام وشراب ؟
أم في توافر حاجات النفس من سمو وسكينة .
وهل هي في جمع الدرهم والدينار ثم الانغماس في المتع والملذات الحسية ؟
أم في تزكية النفس وتحليتها بالفضائل الإنسانية ، والسمو بها إلى معارج القدس الربانية ؟
الحياة الطيبة ... أيها الأخوة المؤمنون ليست عروقاً تنبض فيها الدماء ، ولا أعصاباً تنتقل عبرها الأحاسيس فحسب ، ولكنها قلوب عرفت ربها فاستغنت به عمن سواه ، ونفوس سمت إليه ففنيت في محبته .
الحياة الطيبة ... تحرير للنفس من قيود المادة وأغلال الشهوات ثم تسبيحها في ملكوت الأرض والسماوات .
الحياة الطيبة ... سمو الإنسان عن حاجات جسده الفاني دون أن يهملها ، والاستجابة لحاجات نفسه الخالدة دون أن ينسى حقوق الآخرين .
الحياة الطيبة ... لا تنتهي بموت بل تبلغ أوجها به
الحياة الطيبة ... لا تتراجع بتراجع صحة الجسد ولكنها تتزايد بتزايد إقبال النفس على ربها .
الحياة الطيبة ... لا تنتهي بموت بل تبلغ أوجها به .
الحياة الطيبة ... لا تضمنها أعراض زائلة كالمال والسلطان ولكن يضمنها رب كريم ومن بيده مقاليد السماوات والأرض والناس أجمعين .
وفوق ذلك فالحياة الطيبة ... راحة بال وعافية بدن ، وتوافر حاجة وسمو مكانة ، وطيب زوجة ، وصلاح ذرية .
قال تعالى :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾
[ سورة النساء الآية : 147 ]
يقول الإمام علي كرم الله وجهه :
(( ركب الملك من عقل بلا شهوة ، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل ، و ركب الإنسان من كليهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان ))
من سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة
نعم إن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، ولقد جاء في الحديث القدسي :
عن أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى :
(( عبدي المؤمن أحب إلي من بعض ملائكتي ))
[ رواه الطبراني في الأوسط ]
وفي الحديث الشريف :
(( إن الله تعالى يباهي بالشاب العابد الملائكة ، يقول : انظروا إلى عبدي ، ترك شهوته من أجلي ))
وبعض من ذاق هذه الحياة الطيبة يقول على لسان الذات الإلهية :
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لـما ولـيت عنا لغيرنا
ولو سمعت أذناك حسـن خـطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولـو لاح من أنوارنا لـك لائـح تـركت جـميع الكائنات لأجلنا
ولو نسمت من قربـنا لك نسـمة لمت غريباً واشـتياقاً لقـربـنا
ولو ذقـت مـن طعـم المتحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بـحبنا
أجل هذه هي الحياة الطيبة في الدنيا الفانية ، أما الحياة العليا في الدنيا الباقية فدعك من وصفها لأنه لا سبيل إليه قال تعالى :
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
[ سورة السجدة الآية : 17 ]
وفي الحديث القدسي :
عن أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل :
(( أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ذُخْرا ، بَلّه ما أطلعكم عليه ، واقرؤوا إن شئتم : ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾))
قال تعالى :
﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة العنكبوت الآية : 64 ]
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وصلوا ما بينكم وبين ربكم تسعدوا ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا رحمن، اللهم بارِكْ لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.