موقف ابن تيمية من قضية خلق العالم وتدبيره
أ. د. مصطفى حلمي
استبعد ابن تيمية نظرية الصدور لأنها تنكر الخلق، وناقش نظرية الجواهر الفردة أيضًا لأنها قد تؤدي إلى المساس بفكرة الخلق والتدبير.
ويعرض ابن تيمية لهذه النظرية القائمة في صورتها العامة على أن "الأجسام متماثلة لأنها مركبة من الجواهر المتماثلة وإنما اختلفت باختلاف الأعراض"[1].
إنه يعارض تفسير الحركة في الأجسام بأن الله "لا يحدث شيئًا قائمًا بنفسه، وإنما يحدث الأعراض التي هي الاجتماع والافتراق. والحركة والسكون وغير ذلك من الأعراض"[2] لأنه يرى أن القول بأن الجواهر باقية وتتعاقب عليها الأعراض الحادثة يؤدي إلى إنكار خلق الله لشيء من الأشياء "فإنه عندهم لم يحدث إلا الصورة التي هي عرض عند قوم أو جوهر عقلي عند قوم"[3].
أما حقيقة الخلق الثابتة بالآيات القرآنية، فمنها قوله تعالى ﴿ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 67] وهو أمر للإنسان بأن يتذكر خلقًا من نطفة. فإذا ما فسر الإنسان المخلوق على ضوء نظرية الجواهر الفردة، فإن جواهر الإنسان ما زالت باقية وحدث لها الأعراض "ومعلوم أن تلك الأعراض وحدها ليست هي الإنسان، فإن الإنسان مأمور منهي حي عليم قدير متكلم سميع بصير موصوف بالحركة والسكون وهذه صفات الجواهر والعرض لا يوصف بشيء لا سيما وهم يقولون العرض لا يبقى زمانين"[4].
ولكن نظرية الخلق تختلف عن نظرية الجواهر "فإذا خلق الله الإنسان من المني فالمني استحال وصار علقة، والعلقة استحالت مضغة"[5] ثم إلى عظام إلخ.
وقد رأينا ابن تيمية يهدم نظرية الصدور عن الواحد عند بعض الفلاسفة لأنها تنكر الخلق. فإنه بالمثل استبعد نظرية الجواهر عند المتكلمين. ونرى هنا ترابطًا في موقفه من العالم، فبعد أن أثبت أنه محدث وأن كل ما سوى الله فهو مخلوق، فقد وضع النسق المتكامل للعالم من واقع الآيات القرآنية.
أما صلة الله بالعالم، فهي ليست من قبيل حركة العشق الأرسطي، وليست حركة الأعراض للجواهر الثابتة كما يرى المتكلمون، ولكنها صلة قائمة على الخلق والتدبير.
أما الخلق فإن القرآن "يدل على أن ما سوى الله مخلوق مفعول محدث"[6].
أما التدبير والعناية فإنه ثابت أيضًا بالأدلة القرآنية، فإن "كل ما في السموات والأرض مسلم لله، إما طوعًا وإما كرهًا"[7]. وهو سبحانه مدبر معبد بينما العبد مربوب مقهور[8].
إن العالم إذن يفتقر إلى خالقه في الإيجاد - ابتداء، كما يفتقر إلى الباري أيضًا في العناية والتدبير.
ويستند ابن تيمية في نظريته عن التدبير بما يستشهد به في القرآن من الآيات العديدة التي تصف الملائكة، فليست الملائكة هم العقول أو النفوس في نسق الوجود عند الفلاسفة، وإنما - كما أخبر الكتاب - ليسوا أربابًا أو آلهة[9]، كما أن لهم علومًا "وأحوال وإرادات وأعمال، وهم من الكثرة بحيث لا يحصى عددهم الا الله"[10].
أما أعمالهم المكلفون بها، فإن ابن تيمية يقدم الآيات التي تصف أعمالهم من حيث تسجيل أفعاله بنى آدم وتعضيد المجاهدين وقبض الأرواح إلخ.. فهم باختصار رسل الله "في تنفيذ أمره الكوني الذى يدبر به السموات والأرض.. وأمره الديني الذى تتنزل به الملائكة"[11].
وينقسم دور الملائكة - فيما يرى ابن تيمية - إلى قسمين: منهم ملائكة موكلة بالسحاب والمطر - وهو رزق الاجساد وقوتها. ومنهم ملائكة بالعلم والهدى- أي رزق القلوب وقوتها[12] [13].
ويقول الشيخ "فإن سبحانه وتعالى يدبر أمر السموات والأرض بملائكته التي هي السفراء في أمره، ولفظ "الملك" يدل على ذلك[14].
ومع أنهم رسل الله، إلا أن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة - وهو القول المشهور عند أهل السنة والجماعة. وقد أورد ابن تيمية نصًا لعبد بن سلام عندما سئل عما اذا كان محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل أيضًا من جبريل وميكائيل، حيث أجاب بأنهما "خلق مسخر مثل الشمس والقمر، ما خلق الله خلقًا أكرم عليه من محمد"[15].
ومن خصائص الملائكة أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، غير أن هذا لا يشغلهم عن التدبير الذي وكلوا به. وربما يرجع أفضلية الرسل عليهم إلى أنهم يدعون الناس لعبادة الله "ويعلمونهم ويأكلون الطعام ويمشون في الأسواق"[16].
والله وحده هو رب كل شيء ومليكه إذ يقول: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ [سبأ: 22]. ويقول ابن تيمية في شرحه للمعنى: "ولكن الذي ثبت لله من هذا الاختصاص لا يماثله فيه شيء وتأويل ذلك معرفة ملائكته وصفاتهم وأقدارهم وكيف يدبر بهم أمر السماء والأرض"[17].
وحتى يؤكد الانفراد المطلق لله بالخلق والأمر فإنه يذكر أن كل ما سوى الله مخلوق ومملوك له "وهو سبحانه يدبر أمر العالم بنفسه وملائكته التي هي رسله في خلقه وأمره"[18].
[1] فتاوى ج 17 ص 244.
[2] نفس المصدر 244.
[3] النبوات ص 55 ط المنيرية 1346هـ.
[4] نفس المصدر ص 56.
[5] النبوات ص 57.
[6] منهاج السنة ج 1 ص 36.
[7] جامع الرسائل ص 24.
[8] نفس المصدر ص 25.
[9] نقض المنطق ص 109.
[10] نفس المصدر ص 100.
[11] نفس المصدر ص 100.
[12] نفس المصدر ص 32 و 36.
[13] السيوطي. الإتقان في علوم القرآن ج 2 ص 71، يقول السيوطي: إن ميكائيل "ملك الرزق الذي هو حياة الأجساد، كما أن جبريل ملك الوحي الذي هو حياة القلوب والأرواح".
[14] نقض النطق ص 32.
[15] بغية المرتاد ص 22.
[16] نفس المصدر ص 23.
[17] تفسير سورة الإخلاص ص 111.
[18] نفس المصدر ص 111.