بسم الله الرحمن الرحيم
مناهج المحدثين في كتابة المخطوطات
أيمن ميرغني
مقدمة:
إن المحدثين -رحمهم الله- كانت لهم مناهج، وأعراف شائعة بينهم، يعملون بها عند كتابة المخطوطات، وعلى ذلك فإن من واجب من يعمل في تحقيق المخطوطات وطباعتها أن يتعرّف على مناهجهم، ورموزهم ومصطلحاتهم التي كانوا يستعملونها؛ ليفهم مقاصدهم منها، حتى يخرج المطبوع بصورة موافقة في محتواها ومضمونها للمخطوط الأصل.
وفي هذا المقال -وما يتبعه من سلسلة إن شاء الله- التعريف ببعض تلكم المناهج، كما قد أنبّه إلى بعض أخطاء المحققين التي وقعوا فيها لمّا لم يراعوا ذلك عند طباعة الكتب، وبالله التوفيق.
مناهجهم في ضبط الحروف المهملة:
الحروف المهملة والحروف المعجمة لها رسم واحد، فتتميز عن بعضها برسم النقط التي تكون فوق الحروف المعجمة، بينما ليس على الحروف المهملة أي نقاط فوقها.
وعليه: فإن الحروف المهملة هي: (ح . د . ر . س . ص . ط . ع).
فلو وضعنا نقطة واحدة فوق أي منها تتحول إلى الحرف الآخر المقابل لها، أما حرف (السين) فيحتاج إلى ثلاث نقاط ليتحول إلى حرف (الشين).
أما مجموعة حروف الباء، والتاء، والثاء، والنون، والياء فليس بينها حرف مهمل، فكلها منقوطة، وكذلك حرفا (الفاء)، و (القاف) ليس فيهما حرف مهمل، وإن كان حرف (الواو) قريبًا في شكله منهما إلا أنه لا يلتصق عند الكتابة مع الحرف الذي يليه، فتميز بذلك عنهما.
وأما ما تبقى من حروف الهجاء من ألف، وكاف، ولام، وميم، وهاء فتلك الحروف لا تشابه حروفًا أخرى لتقابلها، سواء أنقطناها أو لم نفعل، وإنما ينقط ما يخشى منه اللبس مع غيره.
قال الزين العراقي -رحمه الله- في [ألفيته]:
(وينبغي إعجام ما يستعجم ** وشكل ما يُشكِل لا ما يُفهم) (1)
وللمحدثين طرق عديدة في التمييز بين الحروف المعجمة والمهملة، طرق زائدة على مجرد الاكتفاء بالنقط التي فوق الحروف المعجمة، وذلك منهم زيادة في البيان والوضوح في التفريق بينها.
منها:
? رسم نقطة تحت الحرف المهمل، مقابلة للنقطة التي فوق الحرف المعجم، فحرف الدال (د) مثلاً يرسم هكذا ( ? ) بنقطة تحته، إذ حرف (الذال) نقطته الفوقية معروفة، وكذلك حرف الراء (ر) مثلاً، يرسم هكذا ( ? )، وهكذا بقية الحروف المهملة، عدا حرف (الحاء)، إذ لو وُضع تحته نقطة لتحول إلى حرف (الجيم) فيُترك مهملاً كما هو، أما حرف (السين) فيُرسم تحته ثلاث نقاط ( ? ) في مقابل حرف الشين، ويكون رسم النقاط تحت حرف السين على شكل مثلث، كما في مقابلها فوق حرف الشين (2) (?)، ومنهم من يرسمها في خط مستقيم (…).
قال ابن الصلاح -رحمه الله- في [مقدمته]: (وسبيل الناس في ضبطها -يعني ضبط الحروف المهملة- مختلف، فمنهم من يقلب النقط، فيجعل النقط الذي فوق المعجمات تحت ما يشاكلها من المهملات، فينقط تحت الراء، والصاد، والطاء، والعين، ونحوها من المهملات. وذكر بعض هؤلاء أن النقط التي تحت (السين) المهملة تكون مبسوطة صفًّا، والتي فوق (الشين) المعجمة تكون كالأثافي (3)) (4).
- مثال:
من مخطوط كتاب [المنجم في المعجم] – للسيوطي (نسخة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة – برقم: 3977).
تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
- النص المكتوب: «شيوخهم المذكورين، والله أسال التوفيق والهداية إلى سواء الطريق.
. حرف الهمزة
أحمد (طب) بن إبراهيم بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح بن هاشم بن إسماعيل..».
- الشاهد: لاحظ النقطة التي تحت حرف (الراء) في قوله: «حرف الهمزة».
? وكان من طرائقهم رسم علامة تشبه قلامة الظفر مستلقية على ظهرها (ں) كأنها شكل هلال، تكون فوق الحرف المهمل، ومنهم من يرسمها كشكل الرقم سبعة (?) فوق الحرف المهمل، فيُرسم حرف الراء مثلاً هكذا (?).
قال ابن الصلاح -رحمه الله- في [مقدمته]: (ومن الناس من يجعل علامة الإهمال فوق الحروف المهملة كقلامة الظفر، مضجعة على قفاها) (5).
? وكان من طرائقهم كذلك رسم نفس شكل الحرف المهمل ولكن بصورة مصغرة تحت الحرف الأصلي في الكلمة، فيكتب الحرف المهمل مرتين في الكلمة، الأولى: برسم الحرف الأصلي في صلب الكلمة، والثانية: يكرر رسمه ولكن بشكل صغير تحت الحرف الأصلي.
قال القاضي عياض -رحمه الله- في [الإلماع]: (وكما نأمره بنقط ما ينقط للبيان، كذلك نأمره بتبيين المهمل، بجعل علامة الإهمال تحته، فيجعل تحت الحاء حاء صغيرة، وكذلك تحت العين عينًا صغيرة، وكذلك الصاد والطاء والدال والراء وهو عمل بعض أهل المشرق والأندلس) (6).
- مثال:
من مخطوط كتاب [أحكام الجهاد وفضائله] - للعز بن عبد السلام (نسخة خطية في مكتبة برلين – برقم: 4088).
تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
- النص المكتوب: «الأجر الجزيل في جوار الرب الجليل، وإنما يحصل ذلك لمن قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى».
- الشاهد: لاحظ شكل الرقم (سبعة) فوق (الراء) في كلمة: «الأجر»، و «جوار»..
وكذا نفس الشكل فوق حرف (السين) في كلمة «سبيل»..
ولاحظ (الحاء الصغيرة) تحت حرف (الحاء) الأصلي في كلمة: «يحصل»..
وكذا حرف (العين الصغيرة) تحت حرف (العين) الأصلي في كلمة: «العليا».
تلك هي أشهر طرائقهم في تمييز الحرف المهمل، وقد يتنقلون فيما بين هذه الطرائق في المخطوط الواحد، -كما في المثال السابق-. قال ابن الصلاح -رحمه الله- في [مقدمته]: (فهذه وجوه من علامات الإهمال شائعة معروفة) (7).
? وكان لبعضهم طرائق أخرى في تمييز المهمل، ولكنها غير مستعملة كسابقاتها، منها على سبيل الأمثلة:
- رسم شكل (ء) همزة صغيرة تحت الحرف المهمل، نحو هكذا مثلاً: (?).
- رسم خط أفقي فوق الحرف المهمل، كعلامة (الفتحة)، هكذا مثلاً: (سَـ).
وإلى غير ذلك من الطرائق المتبعة في تمييز الحروف المهملة.
قال ابن الصلاح -رحمه الله- في [مقدمته]: (وهناك من العلامات ما هو موجود في كثير من الكتب القديمة، ولا يفطن له كثيرون، كعلامة من يجعل فوق الحرف المهمل خطًّا صغيرًا، وكعلامة من يجعل تحت الحرف المهمل مثل الهمزة) (8).
وقال العراقي -رحمه الله- في [ألفيته]:
(وينقط المهمل -لا الحا- أسفلا ** أو كتب ذاك الحرف تحت مثلاً
أو فوقه قلامة، أقوالُ ** والبعض نقط السين صفًّا قالوا
وبعضهم يخط فوق المهمل ** وبعضهم كالهمز تحت يجعل) (9).
? ثم أن منهم من كان لا يميز بين الحروف المهملة والمعجمة مطلقًا، بل ولا ينقط حتى الحروف المعجمة، فتأخذ الحروف المعجمة نفس شكل الحروف المهملة.
- مثال:
من مخطوط كتاب [مصنف بن أبي شيبة] (المكتبة الظاهرية - برقم: 3155).
تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
- النص المكتوب: «وعلى أهل الحلل مائتي حلة).
حدثنا أبو بكر قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن عطاء: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضع الدية على الناس في أموالهم، ما كانت على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل البرود مائتي حلة)، قال: (وقد جعل على أهل الطعام..»
? ومنهم من كان ينقط أحيانًا ولا ينقط أحيانًا أخرى في نفس المخطوط.
- مثال:
من مخطوط جزء [الكلام على حديث: امرأتي لا ترد يد لامس] – لابن حجر (المكتبة الأزهرية - برقم: 1193).
تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
- النص المكتوب: «الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، سئلت عن حديث: (أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا رسول الله، إن امراتي لا تردّ يد لامسٍ..)) الحديث. ما حال هذا الحديث؟ ومن خرجه؟ وما سياق بقية متنه؟ وما معناه؟ ومن تكلم عليه، وهل عرف اسم الرجل والمرأة؟ وهل فيه أنه لما أمره بمفارقتها قال: (لا..»
? ومنهم من كان لا يرسم أحدًا من الرموز السابقة، ويكتفي في التمييز برسم النقط التي فوق الحروف المعجمة فقط، كما هو حالنا اليوم.
قال السخاوي -رحمه الله- في [فتح المغيث]: (ووراء هذا من يقتصر في البيان على ما هو الأسلوب الأصلي لها، وهو إخلاؤها عن العلامة الوجودية لغيرها من غير زيادة في ذلك، وهذا طريق من لم يسلك جانب الاستظهار، وهو طلب الزيادة في الظهور لأجل تحصيل الشيء) (10).
- مثال:
من مخطوط كتاب [الإيماء إلى أطراف أحاديث الموطأ] - للداني (مكتبة كوبرلي بتركيا - برقم: 253).
تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
- النص المكتوب: «عليهم أجمعين، أما بعد، فإني أومئ في هذا الكتاب إلى أحاديث مالك بن أنس قي موطئه، أترجم عنها بذكر أطرافها، وما يدل عليها من مشهور ألفاظها ومعانيها، وأذكر أسانيدها مختصرة، وأدل (11) على مواقعها فيه، بذكر الكتاب، أو..».
وهنا قصة متعلقة بالموضوع، حكاها ابن الصلاح -رحمه الله-، فيمن كان يرسم خطًّا فوق الحرف المهمل، كأنه علامة الفتحة، قال: (سمعت بعض أهل الحديث يفتح الراء من ‹رَضوان›!، فقلت له في ذلك، فقال: (ليس لهم ‹رِضوان› -بالكسر-)، فقلت: (إنما سمي بالمصدر، وهو بالكسر)، فقال: (وجدته بخط فلان بالفتح)، وسمى من لا يحضرني ذكره الآن. ثم إني وجدت بعد ذلك في بعض الكتب القديمة هذا الاسم وفوقه فتحة، فتأملت الكتاب، فإذا هو يخط فوق الحرف المهمل خطًّا صغيرًا، فعرفت أنه علامة الإهمال لا الفتح، وأن الذي قاله بالفتح من ههنا أُتي) (12).
فهذه القصة تدل على أهمية معرفة مناهجهم في الكتابة، حتى لا يقع اللبس والخطأ، والله أعلم.
والحمد لله ربِّ العالمين.
ملحوظة: انقر على الصور لتظهر لك بحجمها الطبيعي.
الهوامش:
(1) ألفية العراقي، ص:142.
(2) شكل المثلث له طريقتان: أن تكون قاعدته لأسفل ورأسه لأعلى (?)، كما هو الحال في نقاط حرف الشين (ش)، أو أن يكون معكوسًا، فيكون رأسه لأسفل (?)، قال السخاوي -رحمه الله- في [فتح المغيث] (3/ 57) إنه هو (الأنسب، والأبعد عن اللبس، قلبها -يعني قلب شكل نقاط الشين-، فتكون النقطتان المحاذيتان للمعجمة من فوق محاذيتين للمهملة من أسفل)، ومنهم من يرسمها في خط مستقيم (...) (لئلا تزدحم النقطة أو النقطتان مع ما يحاذيها من السطر الذي يليها فيظلم، بل ربما يحصل به لبس) قاله السخاوي أيضًا.
(3) الأثافي: ثلاثة أحجار كبيرة -أو حديد، أو نحو ذلك- يوضع عليها القدر.
(4) مقدمة ابن الصلاح، ص: 185.
(5) المرجع السابق، ص: 186.
(6) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، ص: 157.
(7) مقدمة ابن الصلاح، ص: 157.
(8) المصدر السابق، ص: 157.
(9) ألفية العراقي، ص: 142.
(10) فتح المغيث، 3/ 59.
(11) طمس في الأصل، وفي المطبوع: (مختصًرا ما)، ولعل ما كتبته أقرب للسياق والخط.
(12) ذكرها العراقي في [شرح الألفية]، (1/ 470).