أحرار أم عبيد؟
ميمونة شرقية
لا بد أن تتكشف الوجوه في أرض الثورة: ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ... ﴾؛ فهذا التكشف ضروري بعد الخطوة الأولى من الانعطاف التاريخي في حياة الأمة الإسلامية وهي تتحرك في معركتها المستمرة ضد الباطل. هو لطف وعناية ربانيَّان بهذه الفئة المجاهدة، لتتبيَّن مواضع أقدامها في كل خطوة في مسيرها الذي ارتضته لنفسها.
وينبلج الصبح بعد انقشاع دخان الثورة في أرض الكنانة وغيرها، لتظهر الصورة واضحة جلية في قوله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]، ليقف فريقان على طرفي نقيض: فريق الأحرار.. وفريق العبيد.
فريق الأحرار: هم الذين ارتقَوا مع شموخ الحق الثابت في نفوسهم العَلِية بإيمانها، لا يَحيدون عن غايتهم، ولا يضرّهم مَن خالفهم، ومثَلهم في كتاب الله: ﴿ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ (إبراهيم: 24-25)، تشقّ أفنانهم عباب السماء وتضرب جذورهم عمق الأرض، فحتماً سيقطفون ثمار العزة بوعد الله للمؤمنين.
أما الفريق الآخر؛ فريق العبيد: الذين اجتمعوا على أهوائهم، وارتضَوا أن يكونوا تحت ربقة جاهليتهم اللاأخلاقية، منسلخين عن الهُوية الإنسانية، تراهم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً، يستمدون قوّتهم من الاجتراء على الدين والأعراف والتقاليد الاجتماعية، فخضوعهم وعبوديتهم لأهوائهم وشهواتهم.
إن هؤلاء مسخ من التصوّرات الشاذة للقيم والمبادئ والأخلاق، بجعلهم العري - الحيواني - تحضراً وتقدماً ورقياً! وبنظرتهم إلى الستر والعفاف والطهر والنقاء على أنّها رجعية وتخلف!
إنهم فئة من الغاوين المكبّلين بقيود الشيطان الذين استغلوا الثورة وادّعَوا أن من مقتضياتها: الحرية المطلقة غير المنضبطة بضوابط الدين والأعراف الإنسانية تزييناً منهم لقبائح أفعالهم. إنهم قومٌ صُدّوا عن سبيل الهدى وليسوا إلا كما قال الله عنهم: ﴿ وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43]. هم الذين قال الله في وصفهم: ﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [فُصّلت: 25]، فأقاموا حياتهم في مستنقعات الغواية والفساد.
وليست هذه ردات فعل - كما قيل - على التشدد من قِبَل بعض الفئات الإسلامية على الإطلاق، فالإسلام يتوافق مع حاجات الإنسان ويوفر له كل سبل سعادته. أما أولئك فلا يهمّهم سوى إشباع هَوَسهم الغريزي...
فيا أيها الثائرون على كل جاهلية! أنتم أحرار الأمس واليوم وغَد، أنتم أحرار برفع راية الخضوع والانقياد لشرع الله، أنتم عباد الله، لا يضرّكم من خالفكم، ولا يضرّكم مَن حاول تشويه معنى حريتكم.
إنما هي حكمة الله وتدبيره، فلا يعني إمهالُ الظالمين بمجاهرتهم بالآثام وبالمعاصي أن ذلك يضر بالحق ضرراً باقياً، إنما هي سحائب صيف تنجلي من صفحة السماء، وسيأتي وعد الله بالنصر للثابتين الصابرين في ميدان الحق لا تهزّهم رياح الانحراف والأهواء، إنّ وعد الله قاطع جازم: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾.