من أسباب المحبة: دوام ذكر الله
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا مع الأسباب الجالبة للمحبة التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله-.
3. دوام ذكره على كل حال:
قال -رحمه الله-: "الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر"، فدوام الذكر من أسباب المحبة، وهو دليل على صدقها، كما قال -عز وجل-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (الأحزاب:41-43)، يرغبهم الله -عز وجل- في الذكر ببيان ما يحببهم في ربهم -عز وجل- وفي ذكره -سبحانه وتعالى- أنه (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ)، فلو استشعر العبد أن الله يذكره باسمه في الملائكة الكرام، وأرواح النبيين والمرسلين، ويأمر الملائكة أن تثني عليه وأن تذكره بالخير؛ فإنها توجب له محبة الله -عز وجل-.
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) يرحمك ويثني عليك ويعلي شأنك إذا ذكرته الذكر الكثير، (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) فكل هذه الأمور لو استحضرها العبد فلابد وأن توجب له محبة الله -عز وجل-، (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا) (الأحزاب: 44)، وهذا أعظم ما يشتاقون إليه أن يحييهم الله -عز وجل- بالسلام يوم لقائه، فالذي يسبق به الإنسان هو المواظبة والمداومة على الذكر الكثير.
وأصل الذكر حصول المذكور في قلب الذاكر ثم التعبير عن ذلك باللسان، ولذا قال -رحمه الله-: "على كل حال"، أي: يذكر الله في جميع الأحوال والأوقات بالقلب واللسان، وذكر القلب هو المقصود الأعظم، واللسان مُعين له ودالٌّ عليه.
قال -رحمه الله-: "باللسان والقلب والعمل والحال"، فالعمل إنما يكون ذكرًا إذا كان في طاعة الله -عز وجل-، أما الذكر بالحال ـ أي حال قلبه ـ فهو أن يكون بقلبه محبًّا خائفًا متوكلاً راجيًا، فهذه الأحوال القلبية في حقيقتها ذكر لله -عز وجل-؛ لأنَّ ما يفكر فيه الإنسان يدل على انشغاله واهتمامه به، فلو أن إنسانًا بينه وبين آخر محبة فسوف يظل ذاكرًا له على الدوام، وسيذكر أفعاله ومواقفه معه، ولو كان بينه وبين آخر خصومة فسيظل يتذكر المواقف التي فيها الخصومة وما يخشى أن يدبره له الخصم؛ لأنه مشغول بهذا الأمر، فهذا رغمًا عنه يذكر هذا المخاصم، فالذكر بالحال: هو ما يقع في قلب الإنسان من خواطر وتفكير وأعمال قلبية، فمن يذكر الله تعالى دائمًا يفكر في لقاء الله -سبحانه وتعالى- وما يرضيه، ويريد البعد عما يسخطه -عز وجل-، فحال قلبه داوم الذكر.
قال -رحمه الله-: "فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر"، بل إن العبادات إنما شُرعت للذكر، كما قال -عز وجل-: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه: 14)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ) (رواه مسلم)، وكذلك الحج والعمرة شُرعا لذكر الله -عز وجل-، قال الله -عز وجل-: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (البقرة: 198)، وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) (البقرة: 203)، وإنما شُرعت العبادات من رمي الجمار ومن الوقوف في الأماكن المختلفة من أجل الذكر؛ لأن العبد إذا ذكر الله -سبحانه وتعالى- واستحضر كمال أسمائه وصفاته أحب ربه تبارك وتعالى، وأما الصيام والزكاة فذكرٌ بالعمل والحال، وهذا الذي يهيِّئ الإنسان للوصول إلى أعلى المنازل.
وقد أمر الله تعالى في كتابه بذكره فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً . هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (الأحزاب: 41-43)، وقال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً) (الأعراف: 205)، وفي الآية قولان: أحدهما: في سرِّك وقلبِك، والثاني: بلسانِك بحيث تُسمع نفسَك.
وحذَّر -عز وجل- من الغفلة عن الذكر، فقال تبارك وتعالى: (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف: 205>، وقال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر: 19)، وعلَّق الفلاح باستدامة الذكر وكثرته، فقال -عز وجل-: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال: 45).
وأثنى الله -عز وجل- على أهل الذكر فقال: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) ، إلى قوله: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 35)، وأخبر عن خسران من لَها عنه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون: 9).
وجعل الله -عز وجل- ختم الأعمال الصالحة به، فختم به الصيام بقوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185)، وختم به الحج في قوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة: 200)، وختم به الصلاة في قوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) (النساء: 103)، وختم به الجمعة في قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10)، ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا، وإذا كان آخر كلام العبد أدخله الله الجنة (انظر: (مدارج السالكين) ـ منزلة الذكر (2/423) وما بعدها).
وللحديث بقية بإذن الله مع بقية الأسباب الجالبة لمحبة الله –عز وجل-.