اتقوا الله واحذروا الدنيا
عباد الله؛ احذروا الدنيا؛ فإن الدنيا متاعٌ حاضر، يأكل فيه البر والفاجر، وإن السامع المطيع لله لا حجة عليه، وإن العاصي لله لا حجة له على معصيته، وإن الله إذا أراد بالعباد صلاحًا ولَّى عليهم صُلَحاءهم، وقضى بينهم فقهاؤهم، وملك المال أجوادهم، وإذا أراد بهم شرًّا عمل عليهم سفهاؤهم، وقضى فيهم جهلاؤهم، وإنَّ من صلاح الولاة أن يصلح بطانتهم.
احذروا الدنيا؛ فإنها حلوة خضرة، حُفَّت بالشهوات، وحليت بالمكاره، وتزينت بالغرور، لا تدوم فرحتُها، ولا تؤمن مصيبتها، غرارة ضرارة، خوَّانة غدَّارة، متحولة، زائلة، ذاهبة فانية، قال الله عنها: {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].
احذروا الدنيا، إذا كان المرء منها في حيرة، أعقبته بعدها حسرة، ولم يلق من سرَّائها إلا منحته من ضرَّائها، إن أنِسَ إليها تنكَّرَت له.
احذروا الدنيا، إذا أصبحت للمرء منتصرة أمست له خاذلة متنكِّرة، وإن أتت إليه من خيرها وسعتها ورفاهيتها أرهقته، وربما أضلته وأهلكته.
احذروا الدنيا، ما من أحدٍ آمن فيها إلا خوَّفته، فانٍ مَن عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
مَن أكثرَ منها استكثر مما يوقعه في الهلاك، ويطيل حزنه.
احذروا الدنيا، فكم من واثق بها قد فجعته، وكم من مطمئن إليها قد قضت عليه، وكم من محتال فيها قد خدعته، وكم من مُتكبِّر فيها قد جعلته حقيرًا، وكم من متفاخر فيها قد ردَّه ذليلًا، وكم من ذي سلطان ألقته على وجهه، فاحذروها، واعلموا أنها لا تدوم لأحد، ولو دامت لأحدٍ لكان رسول الله صلى الله عليه بيننا الآن.
احذروا الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: «الدُّنيا خضرةٌ حلوةٌ، إنَّ اللهَ مستخلفُكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدُّنيا، واتقوا النِّساء»، احذر الدنيا يا عبد الله، فأنت مرهونٌ بعملك، ومحاسب على أقوالك وأفعالك.
احذر الدنيا يا عبد الله، فأنت كنت في بطن أُمِّك وحدَك، وخرجت إلى الدنيا وحدك، وستموت وحدك، وستدخل القبر وحدك، وستموت وحدك، وستُبعَث وحدك، وستُحاسَب وحدَك، لا ينفعك أحد، لا صاحب ولا حبيب، ولا قريب ولا بعيد، ولا أمٌّ ولا أبٌ، ولا مالٌ ولا بنون، فإن دخلتَ الجنةَ دخلتَ وحدك، وإن دخلتَ النارَ دخلتَ وحدك.
فاحذر الدنيا يا عبد الله، وتذكَّر قول الله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
احذر الدنيا يا عبد الله، وتذكَّر قول الله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
فاحذر الدنيا يا عبد الله، ولا تكن من القلوب الغافلة، والأنفس الطامعة، ولا تكن ممن ضلَّتْه دُنْياه، فأبعدته عن طاعة مولاه.
احذروا الدنيا، فإن الساعة كلمح البصر، قال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل: 77]، احذروا الدنيا أن تشغلكم عن آخرتكم، وتزوَّدُوا منها للقاء ربِّكم.
احذروا الدنيا، قال صفوان بن سليم: "ليأتين على الناس زمانٌ تكون همة أحدهم بطنه، ودينه هواه.
فيا من أضعت الصلاة احذر الدنيا، واستعدَّ ليوم الرحيل".
يا من تحاربون الله ورسوله بالرِّبا احذروا الدنيا، واستعدُّوا ليوم لقائه، يا مَن تمنع الزكاة احذر الدنيا، واستعد ليوم لقاء الله، يا من تمنع الميراث احذر الدنيا، ولا تتعدَّى على شرع الله، يا من تقطع الأرحام احذر الدنيا، وتذكر أن العمر قصير، وأن الدنيا لا تدوم على حال، يا من تؤذي الجار احذر الدنيا، وتذكَّر "كما تُدين تُدان".
أيها العصاة؛ احذروا الدنيا، وتوبوا إلى الله، فإنه يقبل التوبة عن عباده، يا من تستخفُّ بالدماء احذر الدنيا، يا من تُروِّع الآمنين احذر الدنيا، يا من تشيع الفاحشة في المجتمع المؤمن احذر الدنيا، وتذكَّر عذاب الله في الدنيا والآخرة، يا من تجمع المال من الحرام احذر الدنيا، يا آكل الحقوق احذر الدنيا، يا من لسانك ينطق بالغيبة والنميمة احذر الدنيا، يا من تشعلون فِتَن الشهوات والشبهات والأهواء بين المسلمين احذروا الدنيا، يا من تجهرون بالمعاصي والذنوب احذروا الدنيا، واعلموا أنكم على خطر عظيم.
عباد الله؛ كُلٌّ مِنَّا يعلم ملذَّاته وشهواته وذنوبه وغرقه فيها، وزخرفة وغرور الدنيا، فلنحذر من الدنيا وشهواتها، ولنحذر أنفسنا منها، فالدنيا سجن المؤمن، ومتاعها قليل، لا تساوي عند الله شيئًا، فاحذر منها، وتذكَّر يا عبد الله أن الدنيا مع ظلم وجفاء وعناد وكبرياء وملك فرعون، وقوله: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] أهلكته، وفي الأنهار أغرقته، ومع نبي الله يوسف عليه السلام مع حقد وحسد إخوته، وإلقائه في غيابات الجب ودخوله السجن رفعته، وجعل على خزائن الأرض، وتبوَّأ من الأرض حيث شاء، فاحذروا الدنيا عباد الله، واعلموا أن النجاة في ثلاث، والهلاك في ثلاث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مُنْجياتٌ، وثلاثٌ مهلكاتٌ؛ فأما المنجيات: فتقوى الله في السرِّ والعَلَنِ، والقول بالحق في الرِّضا والسخط، والقصد -أي: الاعتدال في الإنفاق- في الغنى والفقر، وأما المهلكات: فهوًى مُتَّبَع، وشحٌّ مُطاعٌ، وإعجاب المرء بنفسه، وهي شرُّهن»، هذا وبالله التوفيق، وأسأل الله السلامة لي ولكم في الدنيا والآخرة، وصحبة نبيِّه وأصحابه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
منقول