لم تحظ لغة من لغات العالم بالغدر و الخيانة من أهلها قبل أن تُغدر من المستشرقين مثل لغة الضاد ، ذلك لأنه حاربها المستعمرين كافة بشتى السبل و الوسائل ، من الاستعمار الفرنسي العنيف الذي يسحق الهُوية العربية و الإسلامية و يمحو الجذور التاريخية و الثقافية لأمتنا العربية و الإسلامية ، و انتهاء بالاستعمار الإنجليزي الذي يداهن و يهادن و يتواءم و يتكيف ليُكون نفس النتيجة و لكن بأسلوب مختلف يعتمد على المراوغة و الترغيب و الترهيب ، فيُرغِّب في الاعتماد على اللغة الإنجليزية بأن يجعل راتب المدرس في اللغة الإنجليزية أكثر من اللغة العربية مثلما فعل ذلك اللورد دانلوب وزير التعليم في عهد دولة الاحتلال الإنجليزي بمصر ، و بأن يظهر مدرس اللغة العربية بمظهر كوميدي غير لائق في أفلامنا منذ القدم ، و حتى الوقت الحالي ، و يعتبر فيلم (مبروك أبو العلمين ) كمثال بيِّن وواضح على ذلك ، و يدس جوقة المثقفين والفنانين الذين يتخذون العلمانية مذهبا في الفكر ، أفكارا زائفة مفادها ، إن اللغة العربية الفصحى لغة عقيمة لا تواكب الواقع و ضعيفة و قاصرة عن أن تكون لغة المخترعات الحديثة ، بل و حدا البعض إلى التحدث باللهجة العامية المصرية في القنوات الإخبارية على غير المعتاد ،كونها اللهجة الأقرب لأذهان الناس و أذواقهم ، و أفتى بعض السياسيين المحليين بالتحدث باللغة الهيروغليفية
لأنها لغة الحضارة الفرعونية ، و هكذا أراد القريب و الغريب سلخ اللغة العربية من أذهان العرب و المسلمين ، و لم يلحظ الكثيرون أن الهدف الأساسي لجمهور المستشرقين القدامى و المحدثين هو القضاء على القرآن الكريم ،ليس بمحتواه المعرفي و الديني و الثقافي و حسب ، بل بالقضاء على فقه اللغة العربية ،فمن لم يفقه العربية الفصحى لن يتأتى له أن يفهم اللفظ القرآني بدقائقه، و لن يفهم قوة المعاني المتولدة و فيض البلاغة القرآنية الوافية منه .
و إذا نظرنا حولنا في شتى بقاع الأرض أو قطر من أقطارها ، لرأينا الأقوام الذين يختلفون عنا في لغتهم و ثقافتهم يتمسكون بلغتهم تمسكا شديدا و يحرصون على ذلك فهو هويتهم التي انتقلت من أجداده ،فاللغة هي وعاء الثقافة و خزان المعرفة ، فلن تجد مثلا الصينيون يغيرون لغتهم الأم لأنها لغة صعبة و يتحدثون الإنجليزية عوضا عنها ، علما بأن الأبجدية الصينية تقدر بخمسة آلاف حرف ، أو غير اليابانيون لغتهم الأم لأن لغتهم عصية على التعليم و التحدث بها مبهم ، فمنى كان التحدث باللغة فرضا واجبا كانت الثقافة بهذه اللغة هي المسيطرة على أفكار الناس و هي لغة الاقتصاد و السياسة و الحرب و العلم ، و غاية كل مستعمر أن يغير اللغة الأصلية للبلد الذي احتله إلى لغته هو ،ليمحوها من هُويتها و يسلخها من جلدتها ، و يُنسيها تاريخها ، كما قلت سابقا فها هو اللورد كرومر المعتمد البريطاني أثناء الاحتلال الإنجليزي لمصر ، صرح قائلا بأنه لا وجود للمستعمرات البريطانية في مصر إلا عندما نمحو هذا الكتاب يقصد (القرآن) من بين ظهارنيهم، فهو من وجهة نظره هو المحافظ على اللغة العربية في أنقى صورها ، و لازالت الأساليب تتغير منذ ذلك العهد ، حتى العهد الحالي ، فهناك المنح الدراسية باللغة الإنجليزية والفرنسية و هناك الجامعات الكندية و الأمريكية و الفرنسية ، كل دولة تضع شروطا مسبقة للعمل على أرضها بإتقان لغتها الرسمية ، و هكذا لا عزاء للعربية فليست لغة يرغب فيها الجمهور الأعم، و لا تُغري أحدا لتعلمها جيدا ، فلا منح و دراسات تشجع على ذلك من قبل أهلها .
عبقرية الحرف العربي :
——————————-
من منا يعلم أن اللغة العربية و حروفها المجردة وحدها تكاد تكون إعجازا في حد ذاتها و في شكل الحرف و رسمه ، فمثلا حرف ع و حرف الفاء في استخدامهم ، فمثلا لماذا نقول قطف الوردة و لا نقول قطع الوردة ،و لا نقول قطع الوردة و لطف الشجرة ، أتدري لم ؟ لأن الفاء في اللغة من حروف الهمس لها نبرة رقيقة تحتاج رقة و لطف فنقول قطف ، أما حرف العين ع فهو يشبه رأس الفأس ، في رسمه ، و يوحي بالعنف و القسوة ، فنقول قطع الشجرة ، ردع العدو ، جدع أنفه و هكذا ..،
مثال آخر ، الفارق بين صب و كب ، الفارق هنا في حرف ص و حرف ك ، فنجد المعنى واحد تقريبا و الاستخدام مختلف ، و يعتقد غير المتخصص ذلك و لكن هنا مكمن الخطأ فحرف الصاد يشبه القدر المائل فيوحي بالفطرة إلى الرفق في تدفق الملء ،فنقول صُبي الماء لنتوضأ ، و لا نقول كُبي الماء لنتوضأ ، أما كب فرسم حرف الكاف يوحي بالعلو و الانحدار السريع ، فنقول كبي هذا الماء الفاسد فإنه نجس ، فيوحي بالسرعة و الانحدار و
كما قالت الآية الكريمة (فكبكبوا بها هم و الغاوون) كمثال على إلقاء أهل النار في النار يوم القيامة أعاذنا الله منها.
براعة الاستخدام و اختلاف المعنى:
——————————————–
نجد مثلا أن كلمة واحدة مثل دائرة لها سبعة عشر استخداما ، مثل : يدور و دورة و استدارة و دوران و دائري و دُوّار و دُوَار و دُوّارة و دردارة و دائري و مدور و مستدير ، و هكذا .. و كل كلمة لها معنى مستقل بذاته و الأصل واحد ،و ليس ذلك إلا لان اللغة العربية ثرية الجذور اللُغوية و هذا ليس موجودا في لغة أخرى ، و هي ثرية أيضا بالاشتقاق اللُغوي ، و مثال على ذلك نستطيع أن نحضر كبمة لها معنى في المعجم و كلمة أخرى لها معنى آخر و ندمجهم سويا لتصنع كبمة جديدة تحمل المعنيين من أصلين مختلفين ، أي أن اللغة تكثر بالدمج و الاشتقاق ، مثل ، كلمة (عسكر)
هي كلمة ذات أصلين و جذرين ،الأول (عسَّ) أي طاف بالليل ، و الأخرى ( كرَّ) أي طاف مرة بعد مرة ، فلما دمجناهما صارت الكلمة الدلالية معناها الطواف بالليل مرة بعد مرة ، و صارت صفة وظيفية لكلمة عسكر ، و ذلك من عبقريتها و ثرائها.
قوة و دقة اللغة العربية في استخدام التعبيرات
———————————————————–
تضعف اللغات الأخرى عن إحاطتها بالمعاني و ذلك لأن اللغات الأجنبية الأخرى فقيرة في الجذور اللغوية ، فنجد مثلا في اللغة الإنجليزية استخدام الأفعال ثنائية الكلمة
Two word verbs مثل look – at, look- into
Look- up ,
و ذلك لأن علماء اللغة الإنجليزية لم يجدوا جذور لغوية كافية للاشتقاقات الجديدة ، أي ليشتقوا أفعال جديدة ، فاضطروا إلى تركيب هذه التراكيب اللغوية الثنائية ، على العكس من ذلك لغتنا العربية العظيمة .
استخدام المترادفات العربية في اللغات الأجنبية الأخرى:( اللغات الأخرى تنحت من العربية )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نلاحظ جلياً إذا أمعنا النظر في اللغات الأجنبية ان الأصل العربي أحيانا يكون قد أُخِذ كما هو ، قد كتبه الأعجمي بحروف لغته أو عكسها من اليمين لليسار أو العكس ، مثل : كلمة لجاج ؛ و معناها : متاع باللغة العربية ،اي متاع السفر ، نجد أن الكلمة في الإنجليزية تحمل نفس المعنى و بنفس النطق، Luggage , أما كلمة play و هي تعني يلعب ،إذا نطقتها معكوسة من جهة آخر الفعل
من جهة y ستقرأ هكذا يلب ، نفس الكلمة بالعربية و أصلها يلعب و كلمة Konditorei
و تعني صانع الحلوى بالألمانية و أخذت الكلمة من العربية كما هي تقريبا ، و أخذت كما هي لتكون Candy في الإنجليزية ، فنجد أن كلمة (قندي)هو صانع الحلوى بالعربية و ننوه بأن في الإنجليزية وحدها ما يقارب الستين ألفا من الكلمات الإنجليزية أصلها عربي الأصل ، و لنعلم حجم التعصب ضد العربية و التجاهل لها ، نجد أن أحد معاجم أوكسفورد الإنجليزية في ترجمته للكلمات و أصولها ، يقول أن هذه الكلمة أصلها من اللغة اللاتينية أو أي لغة أخرى أما إذا كان لها أصل عربي فيقول المعجم ليس لها أصل و ذلك للتنصل من العربية و من حقيقة أن اللغة العربية أثرت في اللغات الأجنبية بشدة ، نجد مثلا أن كلمة WAR
تعني حرب ، و في العربية ورع تعني الحرب
و في الفرنسية مجد كلمة Tasse و هي المقلاة الكبيرة ، و تعني نفس الكلمة طاسة بالعربية و هكذا ، و لنبين حجم القوة لهذه اللغة العظيمة نجد أن تعداد مترادفاتها غير المتكررة حوالي اثني عشر مليونا من الكلمات ،يليها في الترتيب الإنجليزية بحجم مترادفات يبلغ ستمائة ألف كلمة فقط ، فالبون شاسع جدا .
المستشرقة الألمانية زيجريد هونكة تنصف العربية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و في كتابها الشائق الممتع (شمس العرب تسطع على الغرب ) تحدثنا المستشرقة الألمانية زيجريد هونكة عن مآثر العرب الخالدة في الاختراعات و الاكتشافات العلمية الحديثة مثل الصاروخ و الطوربيد البحري و القفل الثلاثي المعقد كماذكرت أيضا إسهامات اللغة العربية في اللغات الأوروبية
و عضدت ما قالته بكثير من الألفاظ الألمانية زو الإنجليزية و الفرنسية المستخدمة في شتى المجالات ، مما يدل على عمق تأثير العرب و العربية منذ أكثر من عشر قرون كانت لغة العلم و التقدم و الثقافة ،و كان الشباب الإسباني و الإيطالي يتفاخرون بمعرفتهم باللغة العربية كنوع من حب التثاقف في أيامنا هذه مثلما يتفاخر الآن شبابنا بمعرفته بالإنجليزية بين أقرانه ، و كانوا يتفاخرون بحفظهم لأبيات الشعر العربي ،فكانت العربية وقتها لغة العلم و الثقافة .
قال عمر الفاروق رضي الله عنه: تعلنوا العربية فإنها تثبت العقل و تزيد في المروءة .
و أختم مقالي هذا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال في الحديث الشريف
أحبوا العرب لثلاث لأنني عربي و القرآن عربي و كلام أهل الجنة عربي )
ستظل اللغة العربية شاء من شاء وأبى من أبى هي النموذج البارع في قوة اللفظ و استدرار البلاغة للمعاني ، و تبيان قوة الحرف ،شهد بذلك المنصفون من المستشرقين ، حاول الكثير طمس جمالها و لكنها تبقى لغة القرآن الكريم عصية على النسيان ، حافظة للقرآن .
أحمد زكريا