في بيتهما المصري البسيط تلا سامي وزوجته ليلى أمامي مقاطع من الكتب المقدسة في المعتقد البهائي الذي يعتنقانه، ثم توقفا ليحدثاني عن جزء فيها يحرم دفن الميت في مكان يبعد أكثر من ساعة عن مكان وفاته.
يقول النص الذي اطلعت عليه: “حُرم عليكم نقل الميت أزيد من مسافة ساعة من المدينة، ادفنوه بالروح والريحان في مكان قريب”.
يشكل هذا النص جوهر المعضلة التي تواجهها هذه العائلة المصرية البهائية. فسامي وليلى يعيشان في الإسكندرية التي تبعد نحو ثلاث ساعات من القيادة عن مدافن البهائيين في القاهرة، وهي المدافن الوحيدة المتاحة لهم في مصر حاليا.
ومثل سامي وليلى تعيش أسر عديدة من أتباع المعتقد البهائي في أنحاء مختلفة من مصر، قد تبعد أحيانا أكثر من عشر ساعات عن مدافنهم في القاهرة.
رفض حكومي
ورفضت محكمة مصرية مؤخرا دعوى أقامها الاثنان إلى جانب بهائيين آخرين بهدف إلزام الحكومة بتخصيص المزيد من المدافن لأتباع المعتقد البهائي، إضافة إلى مدفن القاهرة الذي خصص لهم قبل نحو ثمانين عاما.
وأوضحت المحكمة في حيثيات حكمها “أنه يتعين إعلاء مصلحة المجتمع على الأفراد، لأن العقيدة البهائية مخالفة للنظام العام الذي يقوم في أساسه على الشريعة الإسلامية”.
لكن سامي، الذي يعتزم الطعن على الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا يرى ان تخصيص مدافن قريبة من مكان سكنه يندرج ضمن حقوقه كمواطن، مشيرا إلى أنه “بالإضافة إلى النص المقدس، هذه معاناة كبيرة في الرحلة، من كلفة ومشقة. و حتى لو كنت مواطنا واحدا، أليس من حقي أن يكون لي مدفن على شريعتي؟”
البهائيون في مصر
لا توجد إحصاءات رسمية حول أعداد البهائيين في مصر الآن، لكنها كانت تُقدر بنحو 10 آلاف عندما حلت المحافل البهائية في البلاد في ستينيات القرن الماضي.
وتحكي ليلى عن المعاناة التي واجهتها حين توفي شقيقها نهاية عام 2020 قائلة: “تحركنا في سيارات جماعية إلى القاهرة لأداء الطقوس الجماعية الوحيدة في ديننا، وكان يوما شاقا، تخيل أنني أقطع هذه المسافة الكبيرة في كل مرة أود فيها زيارة قبره”.
“مدافننا امتلأت بالجثامين”
تقع تلك المدافن البهائية في حي البساتين جنوبي القاهرة إلى جوار مقابر اليهود الشهيرة هناك، و لم يسمح لنا البهائيون بسبب ما قالوا إنه أسباب أمنية.
وتحاط المدافن بسور، ويقوم عليها حراس، وتحمل بوابتها لافتة مكتوب عليها “ممنوع الوقوف”.
وهي إجراءات ربما تشير إلى مخاوف هذه الطائفة من أن يُستهدف المكان الوحيد الذي تبقى لدفن موتاها.
ويقول حاتم الهادي، المتحدث باسم البهائيين في مصر، إن المدافن المخصصى لهم في القاهرة لم تعد تتسع لمزيد من الجثامين، خاصة مع ارتفاع الوفيات خلال وباء كورونا.
ويوضح الهادي لبي بي سي أن الأمر يحتاج إلى التحرك العاجل، متسائلا: “أين سندفن موتانا بعد ذلك؟”
وينص القانون المصري على أن تخصيص المدافن يكون بقرار من السلطة التنفيذية.
وكان الأزهر قد أفتى بعدم جواز تخصيص أراض جديدة لدفن البهائيين، لأن ذلك سيؤدي بحسبه إلى مزيد من الفرقة. وجاءت فتوى الأزهر ردا على سؤال من محافظ الإسكندرية الحالي في هذا الشأن.
كما كان الأزهر قد أفتى في ثلاثينيات القرن الماضي بعدم جواز دفن البهائيين في مقابر المسلمين، ولذلك خصصت الدولة حينها مقابر منفصلة لهم.
يقول البهائيون إنهم يكفنون الميت في خمسة أثواب من الحرير أو القطن، وذلك بعد أن يلبسونه في إصبعه خاتما كُتب عليه نص مقدس في المعتقد البهائي، ثم يوضع في صندوق من الخشب أو البلور.
وتُصلى على الميت صلاة جماعية بعد دفنه، وتُقرأ له نصوص تُسمى “أدعية المتصاعدين”.
لا اعتراف رسمي بالبهائيين
ويعترف الدستور المصري الحالي بالإسلام والمسيحية واليهودية فقط، في حين توضع علامة شرطة (_) في خانة الديانة على بطاقة الهوية التي يحملها البهائيون، وهو الإجراء المتبع مع كافة أتباع المعتقدات الدينية التي لا تنتمي للإسلام أو المسيحية أو اليهودية.
ولم يتسن لنا الحصول على تعليق رسمي بخصوص أسباب رفض تخصيص مقابر جديد للبهائيين، غير أن البعض يرى أن ما خصص في ظروف سياسية واجتماعية سابقة للبهائيين، أصبح غير ملائم الآن.
ويقول المحامي المصري، أيمن محفوظ “إن الباب إذا فُتح لذلك، سيظهر آخرون من ديانات أخرى ليطالبوا بمقابر خاصة، وهو ما يعد تقطيعا لنسيج الوطن والكيان الاجتماعي”.
ويضيف محفوظ أن “المجتمع ارتضى قانونا لا يعترف سوى بديانات محددة، وأن على الجميع الامتثال، لأن القانون هو الذي يسري”.
أكثر من قرن من البهائية في مصر
وبحسب موقع “البهائيون في مصر” دخلت البهائية البلاد في ستينيات القرن التاسع عشر، وتأسس المحفل الروحاني المحلي للبهائيين في الإسكندرية عام 1924 وحُل بعد ذلك بقرار رسمي.
ويؤمن أتباع البهائية، التي دعا لها الميرزا حسين علي النوري المعروف بـ”بهاء الله” في إيران في منتصف القرن التاسع عشر، بوحدانية الإله وبرسالات الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية ورسالات أخرى.
وكان للبهائيين مدافن أخرى في عدة مدن مصرية قبل عشرات السنين، لكن دفن موتاهم فيها لم يعد مسموحا اليوم.
سميت تلك المدافن، التي كان منها ما يخص عقائد أخرى غير شائعة في البلاد، في السابق بـ”جبانات أحرار الفكر أو أحرار العقيدة أو الجبانات المدنية”.
وتشير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إلى أن فترة الستينيات في القرن الماضي شهدت بداية اضمحلال هذا النوع من المدافن التي ضمت أطيافا متنوعة من العقائد والديانات، إلى جانب الملحدين واللادينيين.
وأوصت المبادرة في تقرير صدر لها حول تلك المدافن بـ”ضرورة إصلاح سياسات الاعتراف بالتنوع الديني والسعي لإقرار سياسات تضمن المساواة وعدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين”.
وإضافة إلى المشاكل المتعلقة بدفن موتاهم يواجه البهائيون في مصر عقبات أخرى في معاملات الأحوال الشخصية مثل إثبات عقود الزواج.